الجمعة، 27 أغسطس 2010

المندبة كبيرة والميت فار

المندبة كبيرة والميت فار


رشيد نيني -
بالأمس، تحدثنا عن ضرورة إعادة الاعتبار إلى المواطن المغربي، فإذا بوزير الداخلية الطيب الشرقاوي يعطينا مثالا حيا وصارخا على «الحكرة».
وفي الوقت الذي جاء فيه وزير الداخلية الإسباني «ألفريدو بيريث روبالكابا» إلى الرباط مرفوقا بسبعة عشر صحافيا في طائرته، واجتمع بهم في سفارة بلاده على الساعة الخامسة مساء ونظم لهم ندوة صحافية ليستمع إلى أسئلتهم ويطلعهم على ما دار بينه وبين نظيره المغربي، ترك الطيب الشرقاوي صحافيي بلاده «منشورين» منذ العاشرة صباحا في مركز الندوات بالوزارة، وفي الأخير خرج وأعطى كلمتين لميكروفون القناة الأولى وانتهت القصة.
قمة «الحكرة» هي أن الصحافيين المغاربة، الذين «خوا بيهم» الطيب الشرقاوي ولم ير ضرورة لاستقبالهم والاستماع إلى أسئلتهم، «لجؤوا» إلى السفارة الإسبانية بالرباط واستطاعوا «التسلل» لحضور الندوة الصحافية التي نظمها وزير الداخلية الإسباني على شرف صحافيي بلاده المعتمدين بالرباط والذين رافقوه في الطائرة.
وقمة الإهانة هي أن قناة عمومية كالقناة الثانية «شدت» الصف أمام السفارة الإسبانية بالرباط لكي تدخل وتحصل على أخبار من الندوة الصحافية لوزير الداخلية الإسباني، فيما وزير داخلية بلادها امتنع عن هذا الأمر واكتفى بجمل منحوتة من الخشب رددها بتثاقل شديد، وكأنه يقوم بواجب ثقيل ينتظر فقط متى ينتهي منه.
لقد أظهر وزير الداخلية المغربي، ومعه مساعدوه، أنهم لم يفهموا بعد أهمية التواصل والإعلام في مثل هذه الملفات المصيرية التي ترهن مستقبل المغرب بعلاقته مع محيطه. عندما يأتي وزير الداخلية الإسباني بصحبة سبعة عشر صحافيا ويعقد ندوة صحافية مباشرة بعد انتهاء لقائه مع نظيره المغربي ليجيب بشكل مفتوح عن أسئلتهم، فليس ذلك من أجل سواد عيون الصحافيين، ولكن لأنه يعرف أهمية الدور الذي تقوم به الصحافة في الدفاع عن وجهات النظر التي تخدم المصلحة العليا للبلد، وأيضا لأنه، كوزير، مجبر على تقديم الأخبار والمعلومات إلى دافعي الضرائب الإسبان الذين يدفعون راتبه الشهري.
وبقدر ما كان المجتمع المدني والصحافة المستقلة والجادة بالمغرب في مستوى الحدث الذي هز العلاقة بين البلدين الجارين، بقدر ما «نجحت» وزارة الداخلية المغربية في تأكيد عدائها غير المبرر لفضيلة التواصل مع الصحافة الوطنية والرأي العام المغربي.
الرأي العام يطرح سؤالا محيرا كان على وزير الداخلية أن يأتي للإجابة عنه أمام الصحافيين. السؤال هو لماذا وقعت كل هذه «القيامة» بين الرباط ومدريد، إلى درجة أن وزارة الخارجية المغربية أصدرت خمسة بلاغات نارية تتهم فيها الأمن الإسباني بالعنصرية وتطالب بتقديم اعتذار، إذا كان البيان المشترك الذي صدر بعد اللقاء بين وزيري داخلية البلدين لا يشير، ولو بكلمة واحدة، إلى مشكل سبتة ومليلية المحتلتين ولا إلى الاعتداءات العنصرية التي قام بها الحرس الإسباني ضد مواطنين مغاربة ومهاجرين أفارقة؟
هذا ما يسميه المغاربة «المندبة كبيرة والميت فار».
ولعل الإحساس المشترك الذي تشعر به فعاليات المجتمع المدني التي نظمت وقفات احتجاجية ضد سلطات الاحتلال الإسبانية في مدخل سبتة وبني نصار على مشارف مليلية، هو أن وزارة الداخلية صورت معها حلقة من حلقات الكاميرا الخفية. وعندما انخدع الجميع وتصوروا أن الداخلية ستكون في مستوى الحدث وستطرح مع الطرف الإسباني قضية الاعتداءات التي تعرض لها المواطنون المغاربة والأفارقة على أيدي رجال أمنه، اكتشفوا أن وزير الداخلية عندما أعطى تصريحه الخشبي المقتضب عقب اللقاء «ثقال عليه لسانو» ولم يجرؤ على مجرد ذكر كلمتي سبتة ومليلية.
إنّ أنجح حلقة من حلقات الكاميرا الخفية التي تمر خلال هذا الشهر المبارك هي تلك التي أخرجتها وزارة الداخلية في قضية الأزمة بين مدريد والرباط.
فبعد بيانات نارية للخارجية، وصفت فيها سبتة بالمحتلة، وحصار حقوقي لمليلية، وبعد تهديد جهاز الأمن الإسباني بالثغرين المحتلين بمقاضاة الصحافة المغربية، وكيل الصحافة اليمينية الشتائم للمغرب ودولته، «يخرج» علينا الطيب الشرقاوي لكي يبشرنا بأن العلاقات بين البلدين كانت دائما حسنة، وستكون في المستقبل أحسن مما هي عليه.
لا يا سعادة الوزير، العلاقات كانت دائما سيئة. وقد ساءت خلال الفترة الأخيرة بشكل خطير جدا كان من الممكن أن يتطور إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية.
لقد خرج وزير الداخلية الإسباني منتصرا من هذه الأزمة بعد أن عاد إلى بلاده محاطا بصحافييه حاملا في يده فتيل النزاع المنطفئ، وخرج وزير الداخلية المغربي من الباب الصغير وهو يتوارى خلف لغته الخشبية هاربا من صحافة بلاده مستكثرا على دافعي الضرائب معرفة تفاصيل ما جرى بينه وبين نظيره الإسباني.
وهكذا، فعوض أن يأتي وزير الداخلية الإسباني إلى الرباط لكي يقدم اعتذاره عن التجاوزات التي تورط فيها جهاز أمنه، ويفتح مع الطرف المغربي ملف احتلال الثغور المغربية المستعمرة، اكتشفنا أن سعادته جاء لكي يجلس وزير الداخلية ومعاونيه المكلفين بملفات المخدرات والهجرة السرية والإرهاب إلى الطاولة أمامه مثل تلاميذ ويطلب منهم تقديم الحساب. وقد تصرف الطيب الشرقاوي كتلميذ نجيب وتعهد للطرف الإسباني بالتعاون في هذه الملفات جميعها، علما بأن المتهم الوحيد في كل هذه الملفات هو المغرب، فالمخدرات والإرهاب والهجرة السرية هي السياط الثلاثة التي تجلد بها إسبانيا ظهر المغرب أمام الاتحاد الأوربي والمنتظم الدولي. وعوض أن يلعب وزير الداخلية في رقعة الملعب التي في صالحه، وهي الرقعة التي توجد فيها قضية سبتة ومليلية والاعتداءات العنصرية على مواطنين مغاربة وأفارقة، فضل الانسياق وراء اللعب في رقعة الجانب الإسباني حيث القوة التفاوضية الضاربة لمدريد، وأصبح الطرف المغربي هو الذي يقدم التزامات إلى الطرف الإسباني وليس الطرف الإسباني هو الذي يقدم اعتذارات إلى المغرب. كنا ضحية نطالب باعتذار فإذا بنا نتحول، بسبب الإدارة السخيفة لهذه الأزمة من طرف الداخلية، إلى مذنبين نتعهد بعدم تكرار الأخطاء.
بالنسبة إلى الجانب الإسباني، فقد وضب خطته بشكل جيد ومحكم. وعندما يتعلق الأمر بالمصالح العليا لإسبانيا، وخصوصا قضية سبتة ومليلية، فإن اليمين واليسار يجلسان معا إلى طاولة الملك خوان كارلوس ويتفقان على موقف واحد، تماما مثلما يحدث بين حزبي الليكود والعمل في إسرائيل، فهما يبدوان مختلفين ومتصارعين في الظاهر حول السلطة، لكنهما متفقان ومتناغمان عندما يتعلق الأمر ببناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين واغتيالهم ومصادرة أراضيهم.
وهذا الغباء السياسي المغربي في فهم التوازنات الخفية للأحزاب السياسية في البلدان الأجنبية ظهر جليا عندما برر الابن المدلل للطيب الفاسي الفهري، وزير الخارجية، دعوته لمجرمة الحرب «تسيبي ليفني» إلى مؤتمره في طنجة بكون هذه الأخيرة ليست وزيرة في الحكومة وإنما في المعارضة، وكأن المعارضة الإسرائيلية تقاتل إلى جانب حزب الله وحماس.
وبناء على هذا التوافق التاريخي بين اليسار واليمين حول مصير سبتة ومليلية، طار «خوصي أزنار» إلى مليلية المحتلة لكي يقضي بها يومين تعبيرا منه عن تضامنه مع أهالي المدينة الذين تخلت عنهم الحكومة أمام «المورو»، فيما هو في الواقع ذهب لكي يقرع طبول الحرب ويذكر المغاربة بما قام به فوق صخرة جزيرة ليلى عندما اعتقل «المخازنية» العزل الذين كانوا يرابطون عندها بعدما نزل فوقها بالمروحيات المقاتلة والعسكر المسلحين بأحدث وسائل الغطس والقتال.
وخلال هذا الوقت، أطلقت صحافة الاشتراكيين صفارات الإنذار التي التقطتها آذان الداخلية المغربية، واعتبرت هذه الزيارة خيانة للجهود التي تقوم بها حكومة ساباطيرو لنزع فتيل الخلاف مع الرباط. خلال هذا الوقت، ارتفعت شعبية الحزب الشعبي اليميني ومعه شعبية «أزنار»، فكانت الرسالة الإسبانية إلى الرباط واضحة، أنتم ترفعون من شعبية حزب معادٍ لكم وتعرفون مواقفه المسبقة من قضية الصحراء، وإذا استمر فتيل النزاع بيننا مشتعلا فإن نيرانه ستغذي استطلاعات الرأي الموالية للحزب الشعبي اليميني الفرانكاوي. والانتخابات على الأبواب، مما يعني وصول صليبي متعصب معادٍ للإسلام كـ«خوصي أزنار» إلى السلطة مجددا وراء رجل قش اسمه «ماريانو راخوي»، وبالتالي عودة الغيوم السوداء إلى سماء البلدين.
بمعنى آخر، فالحكومة الإسبانية أقنعت الحكومة المغربية في شخص وزير الداخلية بأن اشتراكييها أخف ضررا بالنسبة إلينا من يمينييها، ولذلك يجب إخماد هذا النزاع مع المغرب حتى لا يغذي شعبيتهم، خصوصا وأن شعبية الاشتراكيين في الحضيض بسبب الأزمة التي ضربت الاقتصاد الإسباني في الصميم، وحولته إلى أول اقتصاد مرتشٍ على صعيد أوربا بأكملها.
الآن، نريد من وزير الداخلية الطيب الشرقاوي، الذي زف إلينا بشرى طي هذه الصفحة السوداء مع إسبانيا، أن يوضح لنا هل ستستمر وزارة الخارجية في نعت سبتة ومليلية بالمدينتين المحتلتين، وماذا ستفعل الداخلية عندما سيعود نشطاء المجتمع المدني إلى محاصرة المدينتين وقطع الإمدادات الغذائية عنهما.
فالمفارقة العجيبة أن المغاربة اكتشفوا أنهم هم الذين يضمنون خبز المدينتين، بعد أن ساد الاعتقاد طويلا بأن المدينتين المحتلتين تغذيان الشمال المغربي. «ما عرفنا باش، بلاموطارد والفرماج لحمر والكاشير بيريمي».
الواقع أنه إذا كان هناك من شيء ما «بيريمي» في هذه القضية، فداخل دواليب وزارة الداخلية بالضبط.
وقديما قال المغاربة «حوتة وحدة تخنز الشواري».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق