الثلاثاء، 31 أغسطس 2010

الأبعاد الإستراتيجية للتدخل الجزائري في قضية الصحراء المغربية

الأبعاد الإستراتيجية للتدخل الجزائري في قضية الصحراء المغربية

دكتور مولاي الحسن تمازي



مقدمة :

شكلت قضية الصحراء المغربية، قمة التشتت والتجزئة في منطقة المغرب الغربي ، وبالتالي أبانت عن مستوى المنطق الرافض لكل عمل وحدوي من شأنه خلق تكتل إقليمي قادر على الوقوف الند للند أمام التكتلات الإقليمية الأخرى، ومجابهة كل التحديات الخارجية.

فمنذ حصوله على استقلاله ، ما فتئ المغرب ينادي بضرورة استكماله لوحدته الترابية ، على اعتبار أن حدوده الجغرافية غاصة في أعماق التاريخ القديم ، الكامن في أذهان جميع المغاربة .

غير أن الجزائر وقفت في وجه كل المبادرات المغربية التي ترمي إلى إيجاد حل عقلاني وصائب لفض هذا النزاع المفتعل ، والذي يعتبر من مخلفات الاستعمار ؛بل أكثر من ذلك ، سخرت كل إمكانياتها المادية والمعنوية لحشد التأييد الإفريقي والدولي ، ورفض كل التسويات الأممية ، وخرق كل المواثيق الدولية ، سيما مقتضيات القانون الدولي الإنساني ، والقانون الدولي لحقوق الإنسان .فلماذا هذا التحامل الجائر والموقف الغريب الذي تتخذه الجزائر تجاه المغرب؟

يبدو أنه لفهم واستيعاب الأبعاد الإستراتيجية للتدخل الجزائري في قضية الصحراء المغربية وضع العلاقات الثنائية للبلدين في سياقها التاريخي الطويل ،سواء في مرحلة ما قبل الاستعمار الأوروبي الذي تأرجحت فيه هذه العلاقة مابين الوحدة السياسية {بشكل نسبي في عهد الدولة المرابطية وبشكل قطعي في عهد الدولة الموحدية } والتمزق السياسي { في عهد الدولة المرينية وما بعدها ...إلخ } أو في مرحلة الاستعمار الأوروبي الذي ساهم في تكريس تقسيم استعماري غير منصف .

إن اعتمادنا على هذه المنهجية التأريخية ، سيمكننا من :

أولا : الاطلاع على الدور الريادي الذي لعبه المغرب في علاقته مع الجزائر ، سواء على مستوى الجهود المبذولة لخلق تنسيق وتوجه وحدوي لمجابهة التحديات والغزوات الخارجية وكذا تنشيط التجارة الصحراوية مع بلدان غرب إفريقيا وأوروبا ، وذلك عبر الصحراء المغربية ، أو على مستوى ربط مصيره السياسي الاقتصادي والاجتماعي بمصير جيرانه الجزائريين ، عن طريق تقديم المساعدات المادية أو المعنوية لهم بغية تخليصهم من الاستعمار والتي كانت نتيجتها تعرضه هو نفسه للاستعمار، ولانقلاب الجزائريين عليه في مرحلة الاستقلال



ثانيا : الكشف عن التراكمات السياسية التي جعلت الجزائر دولة مضادة بامتياز للمصالح المغربية ، والتي ساهمت في بلورتها عوامل داخلية تتعلق بطبيعة النظام السياسي الجزائري وهذا ما حتم علينا محاولة تفكيكه لدراسة العناصر المتحكمة في تحديد شكله ومضمونه على اعتبار أن جوهر السياسة الداخلية هو المحدد للسياسة الخارجية . وعوامل دولية تجمع بين اللهفة في كسب كل الامتيازات والتربع على كرسي الزعامة داخل المغرب العربي، ولم لا داخل إفريقيا ، لضمان مكانة متميزة داخل المنتظم الدولي .

ولتسليط الضوء على هذه المعطيات ، قسمنا دراستنا إلى مبحثين :

المبحث الأول : العلاقات المغربية الجزائرية زمن السلم

والحرب

المبحث الثاني : أسباب وأهداف التدخل الجزائري في قضية

الوحدة الترابية للمغرب



************************************************************************************

المبحث الأول :العلاقات المغربية الجزائرية زمن السلم

والحرب

لاشك أن الوحدة الجغرافية التي شاءت الأقدار أن تجمع بين الجارتين المغرب والجزائر،أفرزت عدة مقومات روحية وسوسيولوجية،جمعت بين تشابه مناهج الحياة والعادات والتقاليد،والوحدة على مستوى اللغة،الجنس،اللهجات، الدين،المذهب،والماضي المشترك الذي يزخر بمحطات تاريخية مهمة. نحاول استحضارها للكشف عن طبيعة العلاقة التي تجمع بين المغرب والجزائر، والعوامل المؤثرة في تحديد معالم وأهداف السياسة الخارجية لكلا البلدين تجاه بعضهما البعض ، وذلك عبر مرحلتين تاريخيتين:



الفقرة الأولى : العلاقات المغربية الجزائرية في مرحلة الوحدة

السياسية

لقد أثبت علماء الأثر وجود نفس الجنس البشري في المغرب والجزائر وذلك من خلال العظام الفكية التي تم العثور عليها في موقع بليكا بالجزائر.بحيث استنتج الباحثون على أنها تنتمي إلى العصر الحجري القديم الأسفل، وأنها ترتبط بإنسان الشرق الأقصى { جاوه و بكين }على اعتبار وجود شبه في الأسنان ، وهي نفس الخلاصة التي توصل إليها العلماء من خلال الجماجم التي عثر عليها في محجر سيدي عبد الرحمان بالدار البيضاء و أيضا في نواحي الرباط[1]

أما في العصر الحديث ،فيتفق جل المؤرخين على التواجد الأول للبربر ليس في الجزائر والمغرب فحسب ،بل في جميع بلدان المغرب الكبير.

ويبدو أن تعرض هؤلاء السكان للغزوات الخارجية المتمثلة في الفينيقيين، الرومان، الوندال، والبيزنطيين[2] ،قد ساعد على التحام القبائل المغربية و الجزائرية من أجل الحفاظ على هويتها.ولعل في تأسيس مملكة نوميديا في القسم الأوسط من شمال إفريقيا والممتد من الحدود القرطاجية حتى نهر ملوية ، ومملكة موريطانيا في القسم الشمالي الغربي من المغرب الأقصى،والذي يمتد شرقا من نهر ملوية إلى المحيط الأطلسي ـ ما يثبت ذلك ،بحيث كشفت لنا بعض المصادر التاريخية، عن وجود تحالفات مشتركة بين المملكتين ،خاصة في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، بعد أن قام بوكوس ملك موريطانيا بتزويج ابنته للملك يوغرطة ملك نوميديا.

وعلى الرغم من المناورات الرومانية التي حاولت إثارة الخلاف بين المملكتين ، فقد كانت النهاية لصالح التوافق بين المغاربة والجزائريين ، لمحاربة و إخراج المستعمر الروماني[3] .

ومعنى هذا ، أنهما ظلا ملتحمين، شأنهما في ذلك شأن بقية بلدان المغرب الكبير ضد وجود كل محتل غريب عن المنطقة، ولم يستأنسا إلا مع الفتح الإسلامي.

وكان يجب انتظار مرحلة القرن الحادي عشر ليدشن المغاربة الصحراويين،تأسيس الدولة المرابطية التي كانت تحدها جنوبا بلاد السودان ،معقل مملكة غانة ، وغربا المحيط الأطلسي وشرقا نهر النيجر ، وشمالا سجلماسة[4] . وخلال هذه المرحلة ، كانت الحدود المغربية الجزائرية تمتد من مراكش نحو تلمسان ، وهران والجزء الغربي من المغرب الأوسط حتى مدينة الجزائر.ولولا الضرورة الجيوسياسية ـ التي لم تمكن المرابطين من التوفيق بين خطين سياسيين متباينيين : خط الصعود نحو الشمال لمنع تسرب المد النصراني ليس إلى المغرب فحسب ، بل إلى بقية المناطق الجزائرية والبلدان المغاربية، بعد أن جاز المرابطون إلى الأندلس أربع مرات بقيادة يوسف بن تاشفين [5] ، وخط الهبوط نحو الجنوب بقيادة أبي بكر بن عمر اللمتوني الذي وصل إلى بلاد السودان، وتمكن من نشر وتثبيت الدين الإسلامي بحيث أسلم ثلاثة أرباع سكان إفريقيا الغربية ـ لتمكن المرابطون من توحيد بقية أراضي المغرب الأوسط وسائر البلدان المغاربية.

غير أنه في عصر الدولة الموحدية ، تمكن عبد المومن بن علي الكومي من توحيد المغرب الأقصى مع المغربين الأوسط والأدنى، وضم إليهم بعض المناطق في الغرب الإسلامي، واضعا بذلك حدا لتسلط الأعراب والنورماند والصقليين ...إلخ.وقد كان وادي درعة ووهران هما المحور الإستراتيجي الذي اعتمد عليه عبد المومن لتيسير وصول القوافل المحملة بالذهب ، ومنتجات السودان الغربي.

وتجدر الملاحظة إلى أن الموحدين لعبوا دورا كبيرا في تأمين الطرق الرابطة بين المغرب الكبير وغرب إفريقيا ، وعملوا على حفر عدة أبار في عدة مسالك إفريقية . ويروي لنا أبو عبد الله محمد القسطلاني أنه دخل يوما على الأمير أبي ربيع سليمان الموحدي الذي كان واليا على سجلماسة، فوجد عنده أنطاعا {جلد الثور }عليها رؤوس اللصوص الذين كانوا يقطعون الطريق على القوافل التجارية المارة بين سجلماسة وغانا [6]

ولذلك يقول الأستاذ عبد الله العروي " ...يصح القول، لولا الموحدون لما ذكر المغرب في سجل الأمجاد كقوة مستقلة وفاعلة، وبقيت الدولة المومنية على مر العصور في الذاكرة مثل الشوكة والقوة والوحدة..." [7]

غير أن هذه التجربة سوف لن تستمر لعدة أسباب متعددة ومتشابكة[8] ،ويبدو أن أهم هذه الأسباب ، الخطأ الإستراتيجي الذي ارتكبه الملك الناصر الموحدي في معركة العقاب ضد الإسبان ، بحيث جند أكثر من نصف مليون من الجنود المغاربة ، الجزائريين، التونسيين ، الليبيين، و حتى الأفارقة لمواجهة القوات الأوروبية التي لم تستطع التقدم للمواجهة ، وذلك بسبب العدد الهائل للقوات الموحدية . وعوض أن يستغل الناصر الموقف ويدخل في طول إسبانيا وعرضها ، فضل عدم التحرك إلا إذا احتلت العقاب ، فكانت الكارثة، وهي الهزيمة القاسية التي تلقاها الموحدون بعد ضعف معنويات الجيش الذي مع طول الانتظار تغير مساره من المجتمع العسكري الخشن إلى المجتمع المدني اللين. وهذا ما أفضى إلى مرحلة التمزقات السياسية بين المغرب والجزائر ، وبقية بلدان المنطقة المغاربية والأندلسية.



الفقرة الثانية : العلاقات المغربية الجزائرية في مرحلة

التمزقات السياسية



لم تكن علاقة المغرب الأقصى بالمغرب الأوسط تسير على نفس الوثيرة زمن حكم المرينيين[9] وبني عبد الواد،بل كانت تتأرجح بين فترات السلم والحرب،على اعتبار أن كل إقليم حاول كسب الزعامة لاسترجاع أمجاد الدولة الموحدية، زيادة على دور بعض ملوك النصارى في نسف كل محاولة للتقارب بين الجاريين .

غير أن هذا لا يمنع من ذكر بعض المحطات التاريخية التي طبعت العلاقة بين البلدين.

ففي 29/04/1337 تمكن السلطان أبو الحسن المريني من الدخول إلى تلمسان بحيث وفدت عليه هناك سفارة عن مقاطعة لانكوضوك بجنوب فرنسا ، وذلك للتوقيع على اتفاقية لصالح ملك ميورقة في 15/04/1339 /[10] . لكن هذا الوضع لم يستمر

وتجدر الملاحظة ، إلى أن بني مرين ظلوا خلال هذه المرحلة، أوفياء للخط الإستراتيجي الذي رسمه خلفاؤهم المرابطون والموحدون على مستوى توطيد علاقتهم مع المماليك الإفريقية في الجنوب. وكانت الصحراء المغربية هي جسر التواصل التجاري بين المغرب وإمبراطورية مالي في عهد منسى موسى ومنسى سليمان ومنسى ماري جاطة

لكن بداية التغلغل البرتغالي والإسباني في السواحل الإفريقية في أواخر الحكم المريني وبداية الحكم الوطاسي [11] ، سيغير مسار هذه العلاقة. ولعل هذا ما شجع الأتراك العثمانيين على الدخول إلى الجزائر، وذلك أمام الضعف السياسي والإقتصادي للمخزن ، وطغيان الروح الصليبية التي لم تنس من مخيلتها هزائم الزلاقة في عهد المربطين، والأرك في عهد الموحدين . وبدت الأطماع التركية تخطط للاتجاه نحو المناطق الصحراوية المغربية ، ومنها إلى بلدان إفريقيا الغربية. غير أن ظهور الدولة السعدية التي مزجت في حكمها بين الانتماء للبيت النبوي ، والفكر التصوفي الذي خلق تآلفا بين الناس حول مقاومة المحتل بكل الوسائل أعطت درسا كبيرا للعثمانيين ،من خلال الهزيمة القاسية التي ألحقها السعديون بالأوروبيين في معركة وادي المخازن

ونتيجة لذلك ، وجد أحمد المنصور الذهبي الأرضية خصبة للدخول إلى المماليك الإفريقية في منطقة تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج غينيا ؛ بل أكثر من ذلك وجدنا حتى بلاد الكانم والبورنو المسلمة في بحيرة تشاد الحالية تقدم البيعة للمغرب[12] .

هكذا تمكن هذا الأخير من تحصين نفسه من الاحتلال العثماني و أخر الاستعمار الأوروبي إلى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .

أما في الجزائر فلم يخرج العثمانيون من البلاد، إلا بعد أن سلموا مفاتيحها للمستعمر الفرنسي في سنة 1830

وأمام هذا الوضع الاستعماري الجائر الذي بدأت تعيشه الجزائر ، اختار المغرب أن يظل وفيا للروابط التاريخية وللمقومات السوسيولوجية التي نسجها مع الجيران عبر التاريخ ، بحيث لم تمض سوى تسعة عشر يوما على دخول قوات دوبورمون إلى سيدي فرج بالجزائر حتى بادر السلطان المولى عبد الرحمان بالكتابة إلى عامله بتطوان جاء فيها :

"وبعد ، وصلنا كتابك صحبة ابن عليل ،على شأن الواقعة التي ساءت الإسلام ، وأدمت أهل التقوى والدين من استيلاء عدو الله الفرنصيص علي ثغر الجزائر ، واحتوائه على ما وجد من الأموال والذخائر ، بعد ما شرط عليهم ما شرط ورضاه بالدنية التي ما مثلها سلف ولا فرط. إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجر المسلمين في هذه المصيبة ، واجعل رد هذا الثغر لهم قضاء سابقا ، وحكما ، وامض العدو الكافر بريقه ، وعجل بهلاك فريقه ، وجبر صدع الإسلام بجاه النبي عليه السلام."[13]

هكذا وجد الجزائريون في المساندة المغربية متنفسا كبيرا بعد استسلام العثمانيين ورضوخهم للمستعمر الفرنسي. يتجلى هذا من خلال ما قام به سكان تلمسان من بعث وفد إلى مكناس لطلب الدخول تحت الطاعة المغربية عن طريق تقديم البيعة والولاء للسلطان المولى عبد الرحمان . وهو نفس العمل الذي ستقوم به قبائل جزائرية أخرى كأولاد رياح ، أولاد السيد مجاهد ، وأهل معسكر، وذلك بعد أن عين السلطان المغربي علي بن سليمان واليا على تلمسان .

ولذلك ، فرضت علاقة البيعة والولاء التي أصبحت تربط رسميا الجزائر بالمغرب ،تقديم يد المساعدة من الجانب المغربي سواء على المستويين المادي { أسلحة ، عتاد ، جنود ...إلخ } أو المعنوي {تقديم فتاوى، مراسلات تتضمن تشجيعات لمواصلة الدفاع عن البلاد ...إلخ }[14]

غير أن هذه المساندة المغربية للجزائر، ستكون عواقبها وخيمة على المستقبل السياسي الاقتصادي والاجتماعي للمغرب ، بحيث إن هزيمته في معركة إسلي ، شجعت الفرنسيين على التطاول على السيادة المغربية ،سيما بعد التوقيع على اتفاقية للامغنية في سنة 1845 والتي تمكن بمقتضاها الفرنسيون من اقتطاع أجزاء عديدة من التراب المغربي ، سواء في شرقه أو في جنوبه وضمها إلى الجزائر الفرنسية ، إلى درجة أن بعض القبائل المغربية كانت تقسم الى شطرين كقبائل أولاد سيدي الشيخ التي قسمت إلى أولاد سيدي الشيخ غرابة أي التابعة للمغرب وأولاد سيدي الشيخ الشراقة التابعة للجزائر المستعمرة[15]

هكذا كرس الاستعمار الفرنسي النعرة الإقليمية بين الطرفين المغربي والجزائري ، والتي كانت لها نتائج سلبية في مرحلة الاستقلال . بحيث رفض الجزائريون العودة إلى الحدود الأولى التي كانت مرسومة بين الطرفين قبل دخول المستعمر الفرنسي ، والمعترف بها بمقتضى معاهدة طنجة لسنة 1844 والتي تعتبر ضمنيا وادي تافنا حدا فاصلا بين المغرب والجزائر منذ خضوع هذه الأخيرة للحكم العثماني .

فما هي الأسباب الحقيقية والخلفيات السياسية والاقتصادية التي دفعت بالجزائر إلى افتعال مشكلة الحدود مع المغرب ، ووضع كل العراقيل التي تحول دون استكماله لوحدته الترابية ؟



المبحث الثاني : أسباب وأهداف التدخل الجزائري في قضية

الوحدة الترابية للمغرب



لقد ظل المغرب الذي حصل استقلاله ، وفيا لتقديم دعمه المادي والمعنوي للجارة الجزائر،قصد إخراجها من براثين الاستعمار الفرنسي . وفي هذا الإطار، بادرت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال بنشر بلاغ في 2 مارس 1958، جاء في بعض مقتطفات منه، بأنها قامت " بتحليل الحالة في الشمال الإفريقي على إثر حوادث جنوب المغرب وساقية سيدي يوسف ، وأمام استمرار الحرب بالجزائر ، والتطورات التي طرأت على الحالة الدولية ... وتعلن اللجنة التنفيذية عن احتجاجها ضد خلق منطقة تدعى الآن ب " منطقة الموت " في التراب الجزائري ، وعلى طول الحدود التونسية ، يطرد منها السكان الجزائريون طردا ، وتؤيد اللجنة التنفيذية كل التأييد الشقيقة تونس، فيما تبدله من مساع في المجال الدولي لإيقاف تنفيذ هذا التدبير الجائر المنافي للإنسانية ... وتندد اللجنة بالعدوان المشترك الذي شنه الاستعماران العسكريان الفرنسي والإسباني، اللذان يمعنان في القنبلة والمطاردة والتقتيل لسكان الصحراء المدنيين الذين يكافحون في سبيل تحررهم ... "[16]

ونتيجة لذلك ، سيوجه حزب الاستقلال الدعوة لجبهة التحرير الجزائرية ، ولحزب الدستور الجديد في تونس لعقد مؤتمر طنجة في 27 / 04 / 1958

وفعلا ، فإن هذا المؤتمر ساعد الجزائر على الإسراع بتأسيس جهاز شرعي ناطق باسم الشعب الجزائري ؛ أي تأسيس حكومة جزائرية مؤقتة ، ستمكن الجزائريين من الدفاع عن قضية بلادهم في المحافل الدولية ، وإعادة الاستقلال إليها

غير أن تمكن هذه الأخيرة من الحصول على حريتها ، سيقلب موازين القوى لصالح المصالح القطرية ، بدل خدمة مصلحة البلدين



الفقرة الأولى : أسباب التدخل الجزائري في قضية الوحدة الوطنية المغربية

إن أول مشكلة برزت بين المغرب والجزائر بعد حصولها على استقلالها ، هي مشكلة الحدود التي ستؤدي إلى اندلاع حرب الرمال سنة 1963 . بحيث إن الجزائر تشبتت بالحدود التي رسمها المستعمر الفرنسي ، متنكرة بذلك للاتفاقية التي أبرمتها الحكومة الجزائرية المؤقتة برئاسة فرحات عباس مع المغرب في 06/07/1961 والتي جاء فيها " وفاء لروح مؤتمر طنجة المنعقد في شهر أبريل 1958 ، ونظرا لتعلقها المتين بميثاق الدار البيضاء ، والقرارات المتخذة من قبله ، تقرر الحكومتان السعي لبناء المغرب العربي على أساس المشاركة الأخوية في المجال السياسي والاقتصادي ، وتؤكد حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب ، مساندتها غير المشروطة للشعب الجزائري في كفاحه من أجلا الاستقلال والوحدة الوطنية ، وتعلن عن دعمها بدون تحفظ للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في مفاوضاتها مع فرنسا على أساس احترام وحدة التراب الجزائري ، وستعارض حكومة صاحب الجلالة ملك المغرب بكل الوسائل المحاولات الرامية إلى تقسيم أو تفويت التراب الجزائري . وتعترف الحكومة المؤقتة من جانبها ، بأن المشكل الترابي الناشئ عن تخطيط الحدود المفروضة تعسفا فيما بين القطرين ، سيجد حلا له في المفاوضات بين الحكومة المغربية وحكومة الجزائر المستقلة . ولهذا الغرض ، تقرر الحكومتان إنشاء لجنة جزائرية مغربية في أقرب أجل لبدء دراسة المشكل وحله ضمن روح الإخاء والوحدة

المغربية "[17]

إن هذا التنكر يجد هذا تبريره :

أولا: في الأهمية الاقتصادية للأراضي المتاخمة في منطقة تندوف ، سيما بعد أن تأكد وجود خام الحديد فيها . ويبدو هذا من خلال التقرير الذي أعطته إحدى الشركات الفرنسية المكلفة بدراسة استغلال الحديد في المنطقة ، والذي مفاده أن نسبة خام الحديد في المنطقة يبلغ 75 % .وأن هذا الإنتاج إذا أضيف إلى إنتاج موريتانيا سيمثل نسبة 50 % من احتياجات السوق الأوروبية المشتركة[18]

وثانيا : في طبيعة عقلية وتكوين الفاعلين في النظام الجزائري، بحيث ساعد التحاق بعض الضباط الجزائريين الفارين من الخدمة العسكرية الفرنسية ، أو لربما المبعوثين إلى الجزائر والمتشبعين بدروس وافرة من طرف مستعمر الأمس ، على تكريس سياسة الهيمنة وإستراتيجية التوسع الاستعماري،ورسم معالم التوجه الاقتصادي والسياسي للبلاد،والذي اضطر فيه الجزائريون إلى الابتعاد عن النهج اللبرالي ، وتفضيل التوجه الاشتراكي .

ولعل السبب في ذلك يعود إلى الرغبة في البحث عن أسلوب يضمن خلق توجه وحدوي بين الاتجاهات المتصارعة داخل جبهة التحرير الحزب الحاكم[19]

وفعلا، فإنه خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي كانت هناك عدة اتجاهات سياسية لحركة التحرر الوطني في الجزائر . نشير إلى طبيعة تصوراتها المتضاربة لفهم العوامل المتحكمة في طبيعة النظام السياسي الجزائري والمحددة لسياسته الخارجية .



أ ـ الاتجاه اليميني : كان يضم نخبة من الشباب الجزائري الذي ارتوى من الثقافة الغربية، وخاض بعض عناصره تجربة الحرب في صفوف الجنود الفرنسيين ، كالأمير خالد بن محي الدين ،حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، والذي أنشأ هيئة سياسية تحت اسم "وحدة النواب الجزائريين " كرست جهدها للمطالبة بتحقيق المساواة بين الجزائريين والفرنسيين والعمل على إلغاء القوانين الاستثنائية ، والسماح للجزائريين بالدخول إلى مجلس النواب الفرنسي[20] .

غير أن هذا الاتجاه سرعان ما سيتطور إلى فكرة إدماج الشعب الجزائري في السيادة الفرنسية ؛ بمعنى ذوبان الجزائر اجتماعيا ،ثقافيا وسياسيا في فرنسا . وهو ما عبر عنه الصيدلي فرحات عباس في جريدة الوفاق سنة 1936 عندما قال "لو اكتشفت الأمة الجزائرية لكنت وطنيا ، وما احمر وجهي من ذلك كما أحمر من جريمة ...على أنني لن أموت من أجل الوطن الجزائري ، لأن هذا الوطن لا وجود له... "[21]

غير أن هذه التجربة ستنتهي بالفشل ، نظرا لرفض الجزائريين والفرنسيين لها كل حسب تفسيراته لسياسة الإدماج . فالفرنسيون رأوا أنه لا يعقل أن يتم إدماج الأغلبية الجزائرية في الأقلية الفرنسية ، لأن هذا سيقلب الموازين ، ويجعل هؤلاء يفقدون السيطرة والنفوذ أمام الجماهير الجزائرية العريضة. أما الجزائريون ، فقد رفضوا فكرة الإدماج لأنها في نظرهم بمثابة تخلي منهم عن الدين وعن القومية.

هكذا سيبتعد هذا الاتجاه عن فكرة التطرف ، والارتماء في أحضان سيادة المستعمر، ليتحول إلى فكرة أكثر اعتدالا ابتداء من منتصف الحرب العالمية الثانية ، والتي ستستمر إلى سنة 1954 ، وذلك في إطار " الإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري " والذي سيدعو إلى فكرة الارتباط بفرنسا في إطار إتحاد فدرالي، وإلى الثورة بالقانون ، والتحرر والإتحاد .



ب ـالاتجاه اليساري : ظهر بعد الحرب العالمية الثانية في شكل جمعية نجم شمال إفريقيا

التي ضمت مجموعة من العمال المهاجرين من شمال إفريقيا إلى فرنسا . ويعتبر مصالي الحاج هو مؤسس هذه الحركة التي بدأت في نشاطها سنة 1926 ،بحيث كانت مهمتها تتلخص في الدفاع عن الحقوق المادية والمعنوية لعمال شمال إفريقيا العاملين بفرنسا والعمل على توعيتهم ، وتثقيفهم ، وإشعارهم بأهمية انتمائهم إلى القومية العربية الإسلامية، وبضرورة الدفاع عن استقلال بلادهم ، وبلدان شمال إفريقيا [22]. وقد ربطت هذه الجمعية بين فكرة التحرر السياسي والإصلاح الاجتماعي.

غير مضايقات السلطات الفرنسية ، سيجعل هذه الجمعية تعمل في السرية، وتغير اسمها بين الفينة والأخرى إلى الإتحاد الوطني لمسلمي شمال إفريقيا سنة 1934 ، ثم إلى حزب الشعب الجزائري سنة 1937[23] .



ج ـ الاتجاه الإصلاحي الديني : بدأ في شكل نادي للترقي ، أطلق عليه " نادي الترقي " . أسسه بعض العلماء لأغراض ثقافية محضة ، كان الهدف منه بعث التراث الإسلامي .

إلا أنه في مطلع الثلاثينات ، سيتحول هذا النادي إلى جمعية أطلق عليها اسم " جمعية العلماء المسلمين الجزائريين " . وقد كانت هذه الحركة سلفية إصلاحية في طبيعتها ،استمدت مبادئها من سلفية المشرق الداعية إلى الرجوع إلى السلف الصالح والتمسك بالعروة الوثقى . مثل هذا الاتجاه محمد البشير الإبراهيمي والشيخ محمد بن باديس .

ونظرا للسياسة الاستعمارية الجائرة ، فقد عملت هذه الجمعية على خوض غمار السياسة . وكان عليها أن تعمل في واجهتين لمجابهة الاستعمار : أولا ضد الطرق الصوفية التي اتهمتها بنشر البدع والخرافات، والتواطؤ مع المستعمر ، وثانيا ضد دعاة الإدماج الذين أرادوا القضاء على الكيان الجزائري بإدماجه في فرنسا . وفي هذا المضمار كتب الشيخ أحمد بن باديس مقالا في مجلة الشهاب سنة 1936 ردا على مقال فرحات عباس الذي نقلنا جزءا منه أعلاه " إننا نرى الأمة الجزائرية موجودة ومتكونة على مثال ما تكونت به سائر أمم الأرض ، وهي لا تزال حية ، ولم تزل . ولهذه الأمة تاريخها اللامع ، ووحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها ، وتقاليدها الحسنة والقيمة، مثل سائر أمم الدنيا .وهذه الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا ، ولا تريد أن تصبح هي فرنسا ، ومن المستحيل أن تصبح هي فرنسا ولو جنسوها .[24]

إن هذه الاتجاهات الثلاث المتصارعة ، هي التي سيتم اختزالها قبيل استقلال الجزائر في جبهة التحرير كحزب وحيد ، لتبرز الصراعات فيما بينها من جديد مع حصول البلاد على حريتها . خاصة بعد بروز تيارات سياسية أخرى كالحزب الشيوعي الجزائري ومناصرو التسيير الذاتي ذوو التكوين الماركسي. بالإضافة إلى بعض المنظمات الجماهيرية الأخرى كالإتحاد العام للشغيلة الجزائريين ، والإتحاد الوطني للطلبة الجزائريين ، وشبيبة جبهة التحرير الوطني[25] . ولذلك وجدت الجزائر نفسها تتخبط في أزمة سياسية خانقة، استغلها الضباط الجزائريون العائدون من فرنسا ليحددوا معالم السياسة الخارجية ، مستفيدين من الأزمة التي اندلعت بين قيادة الأركان والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ، والتي

ستمكنهم من السيطرة على القطاعات الإستراتيجية ، خاصة داخل وزارة الدفاع والدرك الوطني التي وقعت تحت إشرافهم كليا منذ سنة 1962 . ومنذ هذا التاريخ أصبح الجهاز العسكري ، هو المسير لدواليب الحكم داخل النظام السياسي الجزائري وهو المحدد والمتحكم في السياسة الخارجية للجزائر خاصة تجاه المغرب .

فما هي الأهداف الحقيقية المتوخاة من تدخل الجزائر وافتعالها لقضية الصحراء المغربية ؟



الفقرة الثانية : موقع قضية الصحراء المغربية في النظام السياسي الجزائري



إن التربية العسكرية التي تلقاها الضباط الجزائريون في فرنسا ، مكنتهم من توظيفها داخليا على مستوى تسيير دواليب الحكم ، وخارجيا على مستوى النيل من الوحدة الترابية المغربية وفق ما تمليه المصالح الإستراتيجية الجزائرية .

ولذلك لم يكن هدف النظام الجزائري في بداية الأمر من التدخل في الشأن المغربي ، سوى تصفية حسابات هزيمة حرب الرمال ، وجر المغرب للتوقيع على اتفاقية تضمن بمقتضاها حدودا موروثة عن مستعمر الأمس .

وفعلا، فإنه بعد التوقيع على معاهدة الحدود في سنة 1972 ، وتنازل المغرب عن أراضيه المتنازع عليها ، كانت تصريحات الجزائريين لا تنم عن أية نية ظاهرة للتدخل في قضية الصحراء المغربية ، بل على العكس من ذلك ، عبر قادتها السياسيون عن تأييدهم للحقوق المغربية ليس في الصحراء فحسب بل كذلك في سبتة ومليلية وكل المناطق الخاضعة للاستعمار الإسباني . وهذا ما صرح به الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد بالرباط في أكتوبر 1974[26]

غير أن صدور الرأي الاستشاري لدى محكمة العدل الدولية في 16/10/1975 ، والذي أكد على الروابط التاريخية والقانونية التي تجمع المغرب بصحرائه ، زيادة على حدث المسيرة الخضراء ، والتوقيع على اتفاقية مدريد في 14/11/1975 التي تم بمقتضاها تصفية الاستعمار بالصحراء ـ جعل الجزائر تشعر بخيبة الأمل . ذلك لأن توصل المغرب إلى استكمال وحدته الترابية، يعني بالنسبة إليهم انتقال المغرب من مجرد حليف تاريخي للقوى الكبرى إلى حليف إستراتيجي وخزان مهم للبترول .

ولذلك ، صعد الضباط الجزائريون الذين ارتقوا إلى جنرالات من معاداتهم للمغرب ، وقد ساعدهم على ذلك انتقال سلطة القرارإليهم بشكل سريع في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، سيما بعد أن تم عزل الرئيس الجزائري الشادلي بن جديد عن حزب جبهة التحرير ، وعن رئاسة الحكومة وأيضا عن المجلس الوطني وقيادة الجيش[27] .

وأمام ضعف تكوينهم السياسي ،خاصة بعد إخفاقهم في أول انتخابات تشريعية تعددية التي تمت في 16/11/1991 والتي تم إلغاؤها لتضرب الديمقراطية عرض الحائط ، وجد هؤلاء الجنرالات أنفسهم أمام وضع سياسي ، اقتصادي واجتماعي جد مرعب .

وعوض أن يتم البحث عن حلول عقلانية من شأنها دخ دم جديد في النظام السياسي الجزائري ، وجعله نظاما يحظى بقبول الشعب الجزائري ، واحترام الجيران المغاربة وكل شعوب دول العالم ـ عمل الجنرالات الجزائريون على تصفية كل من يتعاطف مع جبهة الإنقاذ الجزائري ، انطلاقا من ضباط الجيش الشباب الذين تمت إحالة أغلبيتهم على التقاعد المبكر ؛ بل إن حتى الرئيس الجزائري محمد بوضياف ـ الذي حاول إيجاد حل سياسي للأزمة الجزائرية عن طريق تخليق الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، والقضاء على الفساد وإعادة زرع الروح في العلاقات المغربية الجزائرية ـ تم اغتياله في سنة 1992 بأمر من الجنرالات الجزائريين الذين عينوه كرئيس للدولة ، على اعتبار أنه لم ينفذ أوامرهم التوسعية وعاكس عداءهم للمغرب ، وهذا بشهادة الدكتور عبد الحميد براهيمي ، الضابط السابق في جيش التحرير الوطني الجزائري من سنة 1956 إلى سنة 1962 ورئيس الوزراء من سنة 1984 إلى سنة 1988.[28]

ولصرف أنظار عامة الشعب الجزائري عن المشاكل الحقيقية التي تتخبط فيها بلادهم سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي ، عمل النظام الجزائري على الزيادة في تقديم الدعم المالي واللوجستيكي للبوليساريو التي كانت من صنيعته ، وعلى حشد تأييد بعض الدول الإفريقية التي إما ورث أغلبيتها حدودا مصطنعة عن مستعمر الأمس، أو أن الفقر المدقع دفع ببعضها إلى بيع الضمير بأموال جد مغرية ؛ بل أكثر من ذلك حاولت الجزائر استقطاب بعض الدول الأوروبية لتقديم تحفظات على اتفاقية الصيد البحري التي أبرمها المغرب مع الإتحاد الأوروبي ، وذلك تحت ذريعة أن الصحراء المغربية تبقى منطقة متنازع عليها.

وعوض أن يتم توظيف الأموال في مشاريع تنموية ، من شأنها القضاء على البطالة ، وخلق تصالح حقيقي مع الجماهير الشعبية ، وفسح المجال لديمقراطية حقيقية، تم إبرام صفقات مع العديد من الدول الكبرى لشراء الأسلحة ،المعدات الحربية والطائرات، وذلك لتنفيذ طموحاتهم التوسعية ، واستعراض العضلات أمام المغرب ، بغية ضمان منفذ في المحيط الأطلسي ، لتيسير تصريف السلع والمنتجات وخلق فضاء لتبادل تجاري مريح غير مكلف مع الغرب

هكذا يريد النظام الجزائري سحب الثقل التاريخي للمغرب،ولدوره الإستراتيجي ليس داخل المغرب العربي فحسب، بل في إفريقيا وأوروبا . فتوفرا لمنطقة الصحراوية على خزانات مهمة من البترول ، من شأنه إرباك حسابات الجزائريين على مستوى تباهيهم بامتلاك الغاز الطبيعي كورقة وحيدة تكسب بها عطف ورضى القوى الكبرى سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ حجم المبادلات التجارية معها 12 مليار دولار في سنة 2005

ولذلك ، فإن تمكن المغرب من إيجاد حل لمشكلة صحراءه ، سيعرض الجزائر للتهميش ، وسيفقدها أمل الحصول على كرسي الزعامة داخل المغرب الكبير . وهذا ما سبق للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أن صرح به في إحدى خطبه "... لا مغرب عربي بدون الجزائر ...".

ونتيجة لذلك ، ما فتئت الجزائر تضع كل العراقيل في وجه أي تسوية أممية . فقد شجعت البوليساريو على التشبث بحق تقرير المصير دون أن تستوعب مدلوله ، ولا المجال الذي يطبق فيه . ويبدو أن هذه الفكرة تعلمها الجنرالات الجزائريون من الرئيس الفرنسي الجنرال شارل دوغول عندما عرض على القادة الجزائريين ثلاث خيارات لتسوية مشكلة استعمار الجزائر :

إما الانفصال عن فرنسا ، وهذا لا يسري على الجزائر كلها ، وإنما يستثني الصحراء الجزائرية التي قال عنها دوغول " سوف تتخذ جميع التدابير لكي نضمن في جميع الحالات استثمار البترول الصحراوي ، ونقله وشحنه في الموانئ ..."[29] ،

وإما جعل الجزائر فرنسية ، وهذا حسب وجهة نظره لا يتضمن أية مشكلة ،

أو حكم الجزائريين من طرف الجزائريين ، اعتمادا على مساعدة فرنسا عن طريق الإتحاد الوثيق معها . وهذا الاحتمال يشترط أن يكون النظام الداخلي الجزائري من نوع فدرالي

ومما يدل أيضا على ضعف التكوين السياسي لدى القادة الجزائريين ، وتغليبهم للهاجس التوسعي على حساب التسوية الأممية ، تقديم مقترح التقسيم من طرف الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة في 02/11/2001 لجيمس بيكر بمدينة هيوستن[30]

ومعنى هذا ، أن هدف الجزائر ليس هو ضمان حقوق الصحراويين ، وإنما تجزئة هذه الحقوق ، ضاربة عرض الحائط التماسك القبلي والمقومات الروحية والدينية التي تجمع الصحراويين مع بعضهم البعض وبارتباطهم مع وطنهم الأم المغرب.





خاتمة :

عندما تم التوقيع على معاهدة إتحاد المغرب العربي بمراكش في 17/02/1989، تفائل الجميع بأن مشكلة الصحراء المغربية لم تعد عائقا أمام وحدة البلدان المغاربية . ولعل هذا ما دفع بالملك الحسن الثاني رحمه الله إلى القول،عندما طرح عليه مدير جريدة السياسة الكويتية ، سؤالا يتعلق فيما إذا كان القادة السياسيون قد توصلوا إلى إيجاد حل لمشكلة الصحراء المغربية ؟[31] ـ بأن " ... القضية التي ذكرتم ، ليس لها أي تأثير على قضية المغرب العربي ، لأن آمالنا وأحلامنا في توحيد المغرب العربي الكبير ، سبقت بأجيال وأجيال هذا الحدث الطارئ ، المتطفل على التاريخ ، هذا الحدث الذي أسميه ذبابا يتطفل على أسد التاريخ ، أسد المغرب العربي الكبير"[32]

إن هذه القناعة التي صدرت من رئيس دولة ، تجد تبريرها أولا، في كون أن انعقاد مؤتمر إتحاد المغرب العربي في مدينة مراكش لم يكن اعتباطا، وإنما كان تيمننا بعاصمة الدولتين المغربيتين المرابطية والموحدية على الخصوص، والتي تحققت فيها فعليا وحدة المغرب الكبير، وكانت الصحراء مرتبطة دائما بالمغرب . وثانيا لأن الفقرة الأولى من المادة الخامسة عشر من معاهدة إتحاد المغرب العربي جاء فيها " تتعهد الدول الأعضاء بعدم السماح بأي نشاط أو تنظيم فوق ترابها يمس أمن أو حرمة تراب أي منها أو نظامها

السياسي ..."[33]. ومعنى هذا أن السماح للبوليساريو بمزاولة أنشطتهم المعادية للمغرب في تندوف يعتبر خرقا واضحا لهذه الفقرة، ما عدا إذا كانت الجزائر تعترف بمغربية هذه الأرض. ولذلك كان المنطق يفرض أن تضع الجزائر مستقبلا حدا لهذه المناوشات المعادية للوحدة الترابية للمغرب .

غير أن شيئا من هذا لم يحدث ، وظل حلم المغرب الكبير الموحد مجرد حبر على الورق ،و ذلك بسبب تعنت القادة العسكريين الجزائريين الذين فضلوا المصالح القطرية الضيقة على المصالح المغاربية الواسعة الآفاق .متدخلين بشكل سافر في قضية الوحدة الترابية المغربية .

فكيف يعقل أن الدول الأوروبية التي لا تتوفر على أي مقومات للوحدة ، بحيث ليس لها لغة موحدة ولا دين موحد ولا تشابه في مناهج الحياة ...إلخ ، ومع ذلك استطاعت تبديد كل الخلافات السياسية فيما بينها لمصلحة الكل في إطار الوطن الأم الإتحاد الأوروبي .

ولذلك ، يجب على إخواننا الصحراويين المغتر بهم ، أو المجبرين على ذلك ، أن يعلموا أن ما تقوم به الجزائر في تندوف ، الأرض المغربية الأصل، ليس لمصلحتهم أو حبا مجانيا لهم وإنما هناك أهداف وخلفيات ، قد يكونوا هم ضحيتها في يوم من الأيام لأنه كما يقول دزرائيلي "ليست هناك صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل هناك مصلحة دائمة " فلا يجب أن يحلموا أنهم سيؤسسون المدينة الفاضلة التي كثير ما حلم بها الفلاسفة دون أن تتحقق على أرض الواقع . فلا شيء ينتظر من نظام عسكري ليس فيه أي هامش أو مساحة للحرية ، ويكفي للمرء أن يعاين ما يحدث في مخيمات البوليساريو من تجاوزات وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ، تحدثت عنها الكثير من المنظمات الحقوقية الدولية. بل ما يحدث أيضا داخل الجزائر نفسها .

حقيقة ، إن مسألة الديمقراطية في المغرب مازالت تعاني من نواقص وهفوات وأحيانا انتهاكات لحقوق الإنسان وتغييب للمساواة ،ولكن هذا المشكل لا ينبغي أن يؤدي بالمرء إلى الانسلاخ والتجرد من هويته وانتماءه إلى الوطن الأم ، فكلنا مغاربة ، وكلنا نناضل من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل . والفرق بيننا وبين إخواننا الصحراويين المغتر بهم هو أننا فضلنا النضال داخل المغرب لا خارجه . ومن ثمة حافظنا على هويتنا وكرامتنا لكي لا تعبث بها الأيادي القذرة .

فلا نعتقد أن الصحراوي الحر ينسى ماضيه وموطنه الأصلي الذي تربى فيه وعلاقته المتميزة عبر التاريخ . كما أننا لا نعتقد أن الجزائريين الأحرار ينكرون حق المغرب في صحرائه . ويكفي أن نذكر بعض تصريحات الجزائرية المساندة للحق المغربي ،كالرئيس الجزائري السابق أحمد بن بلة ، والسيدة لويزة حنون الأمينة العامة لحزب العمال الجزائري والتي سبق لها أن ترشحت لرئاسة الجمهورية ، وعباسي مدني الرجل الأول في جبهة الإنقاذ الإسلامية الجزائرية ،والذي عبر عن موقفه المساند لحقوق المغرب في صحراءه في كثير من المناسبات ولدى العديد من وسائل الإعلام .وكذلك علي بلحاج الرجل الثاني في نفس الحزب المحظور والذي أدلى باستجواب مؤخرا لدى جريدة المساء . قال في مقتطف منه "يوجد اليوم صراع في الصحراء الغربية .ولكن إذا واصلنا السير بنفس النمط ستخرج غدا حركات أخرى تطالب بدول بربرية في الجزائر والمغرب .إننا نريد مغربا عربيا موحدا ...إنه داخل مغرب عربي حر لا يجب أن توجد دولة صحراوية "[34]

فإلى متى سنظل نعاني واقع التجزئة والتشرذم داخل هذه المنطقة المغاربية ، بل داخل الأمة الإسلامية أيضا ؟ من المستفيد من هذا الوضع ؟ لماذا سبقنا الغرب وحصن نفسه من هذه المنزلقات وبدأ في الحرب الإستباقية ؟

إنها أسئلة عديدة ، تتطلب منا التعامل معها بفكر ثاقب وعميق ، والإجابة عنها بحكمة وتبصر وموضوعية .

فعلى إخواننا الجزائريين ، أن يعووا بأنه حان الوقت للتراجع عن مواقفهم المتصلبة،والتي لن تجلب للأجيال القادمة سوى الحقد والكراهية ، وإنكار الهوية المغاربية . فمن مصلحتهم ، أن ينسقوا مع حليفهم التاريخي المغرب، الذي عاشوا معه المر والحلو عبر صيرورة تاريخية ، تعاون فيها الإثنان بخطى ثابتة ضد الإستعمار الغاشم، لكي يعيش الطرفان في أمن واطمئنان

ويدشنا من جديد زمن الوحدة الفعلية التي عاشها أجدادنا في مراحل تاريخية كانت فيها أوروبا تضرب ألف حساب للقوة المغاربية.و هي المرحلة التي أبان فيها المغاربيون عن تفوقهم في عدة معارك ، كمعركة الزلاقة التي كانت فيها أم الملك القشتالي الفونسو تقبل يد يوسف بن تاشفين لكي لا يؤسر إبنها ويبقي عليه. وأيضا معركة الأرك التي كان فيها يعقوب المنصور الموحدي يبيع الأسير الإسباني للإسبانيين بثمن بخس لايتعدى درهما واحدا[35]

فأين نحن من هذا ؟



*******************************



[1] الناضوري رشيد ـ تاريخ المغرب الكبير ـ الجزء الأول ـ دار النهضة ـ بيروت ـ 1981 ـ ص 60

[2] هناك اختلاف بين الباحثين حول طبيعة التواجد الفينيقي في المنطقة هل يدرج ضمن الاحتلال أم ضمن تطبيع العلاقات مع سكان المنطقة

[3] التازي عبد الهادي ـ الوسيط في التاريخ الدولي للمغرب ـ الجزء الأول ـ مطبعة المعارف الجديدة ـ الطبعة الأولى ـ الرباط ـ 2001 ـ ص 65

[4] نستغرب لإخواننا الصحراويين المغتر بهم الذين تنكروا لدورهم في تأسيس هذه الدولة الصحراوية التي كانت عاصمتها مراكش

[5] خلال هذه المرحلة ،اصطحب يوسف بن تاشفين معه بني غانية، وبعض المغاربة من الجنوب ليطأ أول صحراوي أرض إسبانيا ، بحيث تم تأسيس مملكة بني غانية التابعة للحكم المرابطي

[6] التازي عبد الهادي ـ الوسيط في التاريخ الدولي ـ الجزء الثاني ـ مطبعة المعارف الجديدة ـ الطبعة الأولى ـ الرباط ـ 2001 ـ ص 18

[7] العروي عبد الله ـ مجمل تاريخ المغرب ـ الجزء الثاني ـ المركز الثقافي المغربي ـ الطبعة الأولى ـ الدار البيضاء ـ ص 172 ـ 173

[8] للمزيد من المعلومات ، أنظر ـ تمازي مولاي الحسن ـ الوحدة عبر التاريخ السياسي للمغرب العربي ـ أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الدولي والعلاقات الدولية ـ كلية العلوم القانونية ، الاقتصادية والاجتماعية ـ الدار البيضاء ـ 1999

[9] ينحدر بنو مرين من أنبل فروع زناتة الصحراويين ، كانوا يتنقلون بين غدامس في ليبيا وفكيك بصحراء المغرب الكبير، واستطاعوا توطيد علاقتهم التجارية والدبلوماسية مع الإمبراطورية المالية القديمة

[10] التازي عبد الهادي ـ نفس المرجع ـ ص 139

[11] برز التنافس الإسباني البرتغالي للسيطرة على الشواطئ المغربية في القرن الرابع عشر ميلادي . ففي 15/ 01/ 1344 منح البابا كليمان السادس جزر الكناري للامير لويس دالا سيردة من أسرة ملوك قشتالة . وعلى الرغم من معارضة البرتغال لهذا القرار ، على اعتبار أن هذه الجزر اكتشفها لصالحها بحاران فلورانسي وجنوي في يوليوز 1341 ، فإن إسبانيا أصرت على موقفها مستندة إلى حق تاريخي ،مفاده أن المنطقة المتنازع عليها تابعة للمغرب وأن هذا الأخير تابع لمملكة القوت الإسبانية القديمة . ومنذ هذا التاريخ اتخذت إسبانيا من جزر الكناري قواعد ثابتة لغزو واحتلال ما سيقتطعونه من المغرب ليطلقوا عليه إسم الصحراء الغربية

[12] IHRAI SAID ET AOUCHAR AMINA _ LES RELATIONS INTERNATIONALES DU MAROC DU XIV SIECLE AU DEBUT DU XX _ IMPRIMERIE NAJAH EL JADIDA _1 EDITION _ CASA _ 1991 _ PAGE 25

[13] التازي عبد الهادي ـ التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم ـ المجلد العاشر ـ عهد العلويين ـ مطبعة فضالة ـ المحمدية ـ 1986 ـ ص 9

[14] للمزيد من المعلومات أنظر بوزيان عمر ـ جذور إتحاد المغرب والجزائر ـ 1832 ـ 1845 ـ مطابع عكاظ ـ الرباط ـ 1988

[15] بوزيان عمر ـ نفس المرجع ـ ص 172

[16] بلقزيز عبد الإله ، مفضال العربي ، البقالي أمينة ـ الحركة الوطنية المغربة والمسألة القومية 1947 ـ 1983 ـ محاولة في التأريخ ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ الطبعة الأولى ـ بيروت ـ 1992 ـ ص 156

[17] الوالي عبد الحميد ـ القانون الدوالي العام ـ مطبوع موجه لطلبة السنة الأولى من السلك الثاني ـ قانون عام ـ كلية الحقوق ـ الدارالبيضاء ـ الموسم الجامعي ـ 1987 /1988

[18] مهابة أحمد ـ نزاعات الحدود بين بلدان المغرب العربي ـ مجلة السياسة الدولية ـ العدد 111 ـ مطابع الأهرام ـ مصر ـ 1993 ـ ص 242

[19] وأيضا سد فراغ الهجرة المكثفة للمعمرين الفرنسيين خلال الستة أشهر الموالية للاستقلال

[20] جلال يحي ـ المغرب الكبير ـ الجزء الرابع ـ دار النهضة العربية ـ بيروت ـ 1981 ـ ص 215

[21] جريدة الجامعة ـ العدد 6 ـ الدار البيضاء ـ 1982 ـ ص 27

[22] جلال يحي ـ نفس المرجع ـ ص 221

[23] للمزيد من المعلومات عن دور جمعية نجم شمال إفريقيا في الدفاع عن استقلال الجزائر وبقية بلدان المغرب العربي ، أنظر فناش محمد

وقداش محفوظ ـ نجم الشمال الإفريقي 1926 ـ 1937 ـ وثائق وشهادات لدراسة الحركة الوطنية الجزائرية ـ ديوان المطبوعات الجامعية ـ الجزائر 1984

[24] الفاسي علال ـ الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ـ مؤسسة علال الفاسي ـ مطبعة النجاح الجديدة ـ البيضاء ـ ص 17 و18

[25] براهيمي عبد الحميد ـ في أصل الأزمة الجزائرية 1958 ـ 1999 ـ مركز دراسات الوحدة العرية ـ الطبعة الأولى ـ بيروت ـ 2001 ـ ص98

[26] الشامي علي ـ الصحراء الغربية عقدة التجزئة في المغرب العربي ـ دار الكلمة ـ بيروت ـ 1980 ـ ص 214

[27] براهيمي عبد الحميد ـ نفس المرجع السابق ـ ص 169

أنظر كتابه " في أصل الأزمة الجزائرية ـ 1958 ـ 1999 ـ نفس المصدر ـ ص 241 أنظر أيضا موقع الأنترنيت "للحركة الجزائرية للضباط الاحرار"

www.anp.org

[29] الميلي محمد ـ المغرب الحربي بين حسابات الدول ومطامح الشعوب ـ دار الكلمة للنشر ـ بيروت ت 1983 ـ ص 94

[30] وهو ما تضمنه التقرير الأممي الذي تقدم به السيد كوفي عنان أمام مجلس الأمن الدولي في فبراير 2002 والذي جاء فيه وضع أربع خيارات لحل مشكلة الصحراء:

1 تنظيم استفتاء دون اشتراط اتفاق الأطراف

2 إعطاء حكم ذاتي للصحراويين ضمن السيادة المغربية

3 تقسيم الصحراء بين المغرب والوليساريو

4 سحب الأمم المتحدة للمراقبين الدوليين من الصحراء وترك الأطراف وشأنها

[31] كان هذا في معرض استجواب صحفي تم إجرائه مباشرة بعد نهاية أشغال مؤتمر إتحاد المغرب العربي بمدينة مراكش المغربية

[32] جريدة الصحراء ـ عدد 38 ـ صادرة في 18 فبراير 1989

[33] أنظر نص المعاهدة في "مولاي الحسن تمازي ـ نفس المرجع ـ ص 311

[34] جريدة المساء العدد 391 ليومي 22 و 23 دجنبر 2007

[35] عبد الله إبراهيم ـ تاريخ العلاقات الدولية بالمغرب ـ محاضرات موجهة لطلبة السنة الثانية من السلك الثاني قانون عام ـ كلية الحقوق ـ الدار البيضاء ـ الموسم الجامعي 1988/1989









الدكتور مولاي الحسن تمازي

أستاذ العلاقات الدولية

سطات ـ المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق